تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 169 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 169

169 : تفسير الصفحة رقم 169 من القرآن الكريم

** وَلَمّا رَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ * قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ
يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف قال أبو الدرداء الأسف أشد الغضب. {قال بئسما خلفتموني من بعدي} يقول بئس ما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم, وقوله {أعجلتم أمر ربكم} يقول استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى. وقوله {وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه} قيل كانت الألواح من زمرد وقيل من ياقوت وقيل من برد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة» ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضباً على قومه, وهذا قول جمهور العلماء سلفاً وخلفاً. وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولاً غريباً لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء وهو جدير بالرد وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة. وقوله {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} خوفاً أن يكون قد قصر في نهيهم كما قال في الاَية الأخرى {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أُم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي * إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} وقال ههنا {ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين} أي لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم وإنما قال: ابن أم ليكون أرق وأنجع عنده وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه فلما تحقق موسى عليه السلام براءة ساحة هارون عليه السلام كما قال تعالى: {ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} فعند ذلك {قال} موسى {رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح».

** إِنّ الّذِينَ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رّبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالّذِينَ عَمِلُواْ السّيّئَاتِ ثُمّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوَاْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ
أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل فهو أن الله تعالى: لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضاً, كما تقدم في سورة البقرة {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم. ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصغاراً في الحياة الدنيا, وقوله {وكذلك نجزي المفترين} نائلة لكل من افترى بدعة فإن ذل البدعة ومخالفة الرشاد متصلة من قلبه على كتفيه, كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين: وهكذا روى أيوب السختياني عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الاَية {وكذلك نجزي المفترين} فقال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة, وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل, ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان حتى ولو كان من كفر أوشرك أونفاق أوشقاق, ولهذا عقب هذه القصة بقوله {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك} أي: يا محمد يا رسول التوبة ونبي الرحمة {من بعده} أي من بعد تلك الفعلة {لغفور رحيم}. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عزرة عن الحسن العرني عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن ذلك يعني عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها فتلا هذه الاَية {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} فتلاها عبد الله عشر مرات فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها.

** وَلَماّ سَكَتَ عَن مّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ
يقول تعالى: {ولما سكت} أي سكن {عن موسى الغضب} أي غضبه على قومه {أخذ الألواح} أي التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل غيرة لله وغضباً له {وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} يقول كثير من المفسرين إنها لما ألقاها تكسرت ثم جمعها بعد ذلك ولهذا قال بعض السلف فوجد فيها هدى ورحمة, وأما التفصيل فذهب وزعموا أن رضاضها لم يزل موجوداً في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية والله أعلم بصحة هذا وأما الدليل الواضح على أنها تكسرت حين ألقاها وهي من جوهر الجنة فقد أخبر تعالى أنه لما أخذها بعد ما ألقاها وجد فيه{هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} ضمن الرهبة معنى الخضوع, ولهذا عداها باللام. وقال قتادة: في قوله تعالى: {أخذ الألواح} قال رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة هم الاَخرون السابقون أي آخرون في الخلق سابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها وكان من قبلهم يقرؤون كتابهم نظراً حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئاً ولم يعرفوه وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئاً: لم يعطه أحد من الأمم. قال رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الاَخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلون الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها, وكان من قبلهم من الأمم إِذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها ناراً فأكلتها وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم قال رب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إِني أجد في الألواح أمة إِذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إِلى سبعمائة, رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إِني أجد في الألواح أمة هم المشفوعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتي, قال تلك أمة أحمد. قال قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد.

** وَاخْتَارَ مُوسَىَ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مّن قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السّفَهَآءُ مِنّآ إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاَية, كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً فاختار سبعين رجلاً فبرز ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا الله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا, فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة {قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإِياي} الاَية, وقال السدي: إِن الله أمر موسى أن يأتيه في ثلاثين من بني إِسرائيل يعتذرون إِليه من عبادة العجل ووعدهم موعداً {واختار موسى قومه سبعين رجل} على عينيه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا {لن نؤمن لك} يا موسى {حتى نرى الله جهرة} فإنك قد كلمته فأرناه {فأخذتهم الصاعقة} فماتوا فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول رب ماذا أقول لبني إِسرائيل إِذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإِياي}. وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إِسرائيل سبعين رجلاً الخير فالخير, وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إِليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم, فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم, فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا, فقال: أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله دنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا وكان موسى إِذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم, حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا: يا موسى {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة} وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا, فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإِياي} قد سفهوا, أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل.
وقال سفيان الثوري: حدثني أبو إسحاق عن عمارة بن عبيد السلولي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون وشبر وشبير فانطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله عز وجل, فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون ؟ قال: توفاه الله عز وجل, قالوا: أنت قتلته حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال: فاختاروا من شئتم قال: فاختاروا سبعين رجلا قال: فذلك قوله تعالى {واختار موسى قومه سبعين رجل} فلما انتهوا إليه قالوا: يا هارون من قتلك ؟ قال: ما قتلني أحد ولكن توفاني الله, قالوا: يا موسى لن تعصى بعد اليوم فأخذتهم الرجفة قال فجعل موسى يرجع يميناً وشمالاً وقال: يا رب {لو شئت أهلكتهم من قبلُ وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم هذا أثر غريب جداً وعمارة بن عبيد هذا لا أعرفه, وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي فذكره. وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جرير: إنهم أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل ولا نهوهم, ويتوجه هذا القول بقول موسى {أتهلكنا بما فعل السفهاء من} وقوله {إن هي إِلا فتنتك} أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك, قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف, ولا معنى له غير ذلك, يقول إن الأمر إلا أمرك وإن الحكم إلا لك فما شئت كان, تضل من تشاء وتهدي من تشاء, ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت, فالملك كله لك والحكم كله لك, لك الخلق والأمر. وقوله {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} الغفر هو الستر وترك المؤاخذة بالذنب والرحمة إذا قرنت مع الغفر يراد بها أن لا يوقعه في مثله في المستقبل {وأنت خير الغافرين} أي لا يغفر الذنب إلا أنت {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الاَخرة} الفصل الأول من الدعاء لدفع المحذور وهذا لتحصيل المقصود {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الاَخرة} أي أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة وقد تقدم تفسير الحسنة في سورة البقرة {إنا هدنا إليك} أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك, قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وإبراهيم التيمي والسدي وقتادة وغير واحد: وهو كذلك لغة, وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي عن شريك عن جابر عن عبد الله بن يحيى عن علي قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا {إنا هدنا إليك} جابر هو ابن يزيد الجعفي ضعيف.